سورة المؤمنون - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المؤمنون)


        


{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26)} [المؤمنون: 23/ 23- 26].
المعنى: تالله لقد أرسلنا نوحا عليه السلام إلى قومه، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فليس لكم إله غير الله، ألا تتقون؟ أي ألا تخافون من الله بإشراككم به شريكا آخر؟ فإن الله هو الخالق القادر، وينتقم ممن عاداه، ونسب إليه الشريك.
فقال الملأ أي أشراف القوم وسادتهم الذين كفروا من قومه وعبدوا الأوثان: ما نوح إلا بشر مثلكم، ورجل منكم، يريد أن يتميز ويترفع عنكم بادعاء النبوة، ولا ميزة له من علم ولا خلق، فكيف يكون نبيا يوحى إليه دونكم وهو مثلكم؟! ويمنع نبوته ثلاثة أشياء بحسب زعمهم:
1- لو أراد الله أن يبعث نبيا، لبعث أحد الملائكة من عنده، لأداء رسالته، ولم يكن بشرا، وهذا إنكار لكون النبي بشرا، وتصور بأن النبوة تكون من عنصر أسمى من البشر وهم الملائكة. وهذا يناقض حقيقة الرسالة، فإن الرسول طبعا وعقلا ينبغي أن يكون من جنس المرسل إليه، حتى يتفاهم معه، ويناقشه في الإلهيات والنبوات.
2- ما سمعنا ببعثه: البشر في عهد الآباء والأجداد في الأزمان الغابرة، وهذا يكون بسبب تبعتهم في التقليد للأسلاف، وإهمال دور العقل والوعي، والإصرار على الكفر والجحود من غير برهان مقبول.
3- وقالوا وما نوح إلا رجل مجنون، فيما يزعم أن الله أرسله إليكم، وخصه بالوحي والنبوة دونكم، وهذا اتهام رخيص يصدر من مفلس الحجة، وسطحي التفكير، والمتصف ببلاهة العقل، فإن العوام السطحيين لا يجدون لتسويغ انحرافهم غير اللجوء إلى تسفيه العقلاء، والتشكيك في حكمة الحكماء، ثم إنهم بعد هذا الاتهام يتواصون فيما بينهم بأن ينتظروا الموت لنوح، في زمن قريب، فيستريحوا منه ومن دعوته.
وقولهم: {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} أي انتظروا هلاكه إلى وقت. ولم يعيّنوه، وإنما أرادوا إلى وقت يريحكم القدر منه.
ولما يئس نوح من إجابة دعوته إلى توحيد الله وهجر عبادة الأوثان، على الرغم من صبره على هذه الدعوة ألف سنة إلا خمسين، فلم يؤمن معه إلا القليل، لما يئس أوحى الله إليه أن يدعو ربه لنصره عليهم، فقال نوح: يا ربي انصرني على هؤلاء القوم الضالين، وأهلكهم بسبب تكذيبهم إياي، وهذا يقتضي طلب إنزال العقوبة بهم، وهو آخر الدواء، ووسيلة الخلاص من وباء الشرك والوثنية، كما قال الله تعالى: {فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)} [القمر: 54/ 10].
صناعة السفن في عهد نوح عليه السلام:
حينما يئس نوح عليه السلام من هداية قومه، وإرشادهم إلى توحيد الله تعالى، وترك عبادة الأوثان، أوحى الله تعالى إليه بالدعاء بنصره عليهم، فدعا عليهم، وأوحى الله إليه أيضا الإعداد لنجاته مع أهله الذين آمنوا بدعوته عن طريق صناعة سفينة يركبونها، ويتخلصون من الطوفان الذي يغرق القوم الكافرين، ويمحو آثارهم، وكان نوح عليه السلام نجارا، علّمه الله بالوحي والإلهام، كيف يصنع في صنع السفينة، لتكون أداة صالحة، يتحقق بها النجاة والأمن والسلام، وهذا ما تصرح به الآيات التالية:


{فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)} [المؤمنون: 23/ 27- 30].
من أجل إنجاء نوح عليه السلام ومن آمن معه، أمره الله أن يصنع السفينة بحفظ الله ورعايته، وتعليمه وإرشاده، فكان جبريل عليه السلام يقول له: اصنع كذا وكذا، لجميع عمل السفينة، وما يحتاج إليه، فاستجنّ الكفار نوحا لادعاء النبوة، وسخروا منه لعمله السفينة على غير العادة الجارية، أو لكونها أول سفينة، فقوله تعالى: {بِأَعْيُنِنا} يراد به الإدراك.
فإذا جاء أمرنا، أي حان وقت قضائنا بالعذاب والهلاك، ونبع الماء من تنور الخبز، الذي جعل أمارة كانت بين الله تبارك وتعالى وبين نوح عليه السلام، فاحمل في السفينة زوجين مزدوجين: ذكر وأنثى من كل صنف من الحيوان والنبات والثمر وغير ذلك، واحمل فيها أيضا أهل بيتك، وكل من آمن معك، إلا من سبق عليه القول من الله بالهلاك: وهم الذين لم يؤمنوا به من أهله، كابنه وزوجته، وهو كنعان وأمه. فقوله تعالى: {فَإِذا جاءَ أَمْرُنا} أي إهلاكنا للكفرة. وقوله: {فَاسْلُكْ} معناه: فأدخل.
وقوله: {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ} الزوجان: كل ما شأنه الاصطحاب من كل شيء، كالذكر والأنثى من الحيوان والنّعال وغير ذلك، والمراد به في الحساب العددي: الاثنان.
ثم نهى الله تعالى نوحا عن الاسترحام بقوله: { وَلا تُخاطِبْنِي} أي ولا تسألني، ولا تتشفع في الذين كفروا، ولا ترأف في قومك، فإني قضيت أنهم مغرقون، بسبب كفرهم وطغيانهم.
فإذا استقرّ بك وبمن معك من المؤمنين المقام في السفينة، فقل معهم: الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين، أي أنقذنا من هؤلاء الكافرين المشركين الظلمة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان في السفينة ثمانون إنسانا، نوح وامرأته سوى التي غرقت، وثلاثة بنين: سام وحام ويافث، وثلاث نسوة لهم، واثنان وسبعون إنسانا، فكل الخلائق نسل من كان في السفينة.
ثم أمر الله تعالى نوحا أن يدعو ربه بعد خروجه من السفينة، دعاء مقرونا بالثناء والشكر، وهو: { رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} أي وقل عند النزول من السفينة: ربّ أنزلني إنزالا مباركا أو مكانا مباركا، يبارك لي فيه، وأعطى الزيادة في خير الدارين، وأنت خير من أنزل عباده المنازل الطيبة، لأنك تحفظ من أنزلته في سائر أحواله، وتدفع عنه المكاره، وتزلل له الصعاب.
إن في هذا الصنيع: وهو إنجاء المؤمنين، وإهلاك الكافرين، لدلالات نيرات واضحات على صدق الأنبياء، فيما جاؤوا به عن الله تعالى، وإن كنا لمختبرين عبادنا بهذه الآيات البينة، لننظر من يعتبر ويتعظ. وهذا خطاب لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم مدلوله: إن فيما جرى على هذه الأمم لعبرا، أو دلائل لمن له نظر وعقل. ثم أخبر الله تعالى أنه يبتلي عباده زمنا بعد آخر، على جهة الوعيد لكفار قريش بهذا الإخبار. وقوله تعالى: «مبتلين» معناه مصيبين ببلاء، ومختبرين اختبارا يؤدي إلى ذلك.
دعوة هود عليه السلام إلى التوحيد:
لم تقتصر المأساة على قوم نوح وإغراقهم بالطوفان، وإنما تكررت في قوم آخرين هم عاد قوم هود عليه السلام، دعاهم هود كنوح إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وحذّرهم وأنذرهم، ورغبهم في الاستقامة والتقوى. فعاداه الأشراف والكبراء والسادة، واستصغروه ورأوا مثل قوم نوح تماما أن هودا عليه السلام مجرد بشر، مثل غيره من الناس، وشأن النبي أو الرسول في زعمهم أن يكون من الملائكة فإن أطاعوا بشرا مثلهم، كانوا من أهل الضياع والخسران، وهذا ما ذكرته الآيات الآتية:


{ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34)} [المؤمنون: 23/ 31- 34].
المراد بهذه الآيات في اتجاه أكثر المفسرين: عاد قوم هود عليه السلام، فهم أقدم إلا أنهم لم يهلكوا بصيحة، لذا قال الطبري رحمه الله: إن هذا القرن هم ثمود ورسولهم صالح عليه السلام.
والمعنى: ثم أوجدنا من بعد قوم نوح المهلكين قوما آخرين، هم قبيلة عاد قوم هود عليه السلام، فإنهم كانوا مستخلفين بعد قوم نوح عليه السلام، فأرسل الله تعالى فيهم رسولا منهم، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فكذبوه وخالفوه، ورفضوا اتباعه، فقال لهم: أفلا تتقون؟! أي ألا تخافون عذاب الله بعبادتكم غيره من الأوثان والأصنام، فإن العبادة لا يستحقها إلا الله الواحد الأحد الذي لا شريك ولا ند ولا نظير له. قال الملأ، أي أشراف قوم هود المتصفون بثلاث صفات شريرة، وهي: الكفر بالخالق أو إنكار وحدانيته، والجحود بيوم القيامة، أو التكذيب بالبعث والجزاء والحساب، والانغماس في متع الحياة الدنيا التي أنعم الله بها عليهم، فإن الله أترفهم في الدنيا، أي نعّمهم، وبسط لهم الآمال والأرزاق، لكنهم جحدوا النعمة وبطروا واستكبروا، وقالوا: ما هود الذي يدعي أنه رسول إلا بشر عادي مثلكم في الصفات والحال، لا ميزة له عليكم، فهو يأكل من طعامكم، ويشرب من شرابكم الذي تشربون منه، فكيف يدّعي الفضل عليكم، ويزعم النبوة والرسالة من الله إليكم؟!
إنهم بهذه المقالة يستبعدون بعثة البشر، ويتطلبون إرسال أحد الملائكة للنبوة والرسالة، فهم تماما مثل قوم نوح الذي أنكروا نبوته تحت ستار البشرية الآدمية، لا الملائكية العلوية.
وأقسم قوم هود لبعضهم: لئن أظهرتم الطاعة لبشر مثلكم واتبعتموه، إنكم حينئذ تخسرون عقولكم، وتغبنون في آرائكم، وتضيعون مجدكم بترككم آلهتكم، واتباعكم إياه من غير فضيلة له عليكم.
وبشرية الرسل: كانت هي الشبهة الأولى لإنكار عاد قوم هود، ولإنكار قوم نوح قبلهم، ولكنها شبهة واهية، لأن أبسط مبادئ السفارة أو الرسالة الإلهية، وغيرها أن يكون السفير أو الرسول من جنس المرسل إليه، وليس من جنس آخر فوقه، حتى يتحقق التفاهم على المهمة المرسل بها، ولا يبقى لأحد عذر في اتباع هذا الرسول الذي يؤيده الله تعالى بالمعجزة الخارقة للعادة، لتكون دليلا على صدقه في ادعائه النبوة، كقيام المعجزة على العرب قوم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهي معجزة القرآن، وقيام المعجزة لعيسى عليه السلام على الأطباء، ومعجزة موسى عليه السلام على السحرة في عهد فرعون المتأله الجبار، فقامت الحجة على هؤلاء وعلى جميع من وراءهم، ومن المعلوم أن العقاب لا يتعلق بأحد إلا بعد تركه الواجب عليه، وبعد قيام الحجة المفحمة أو المقنعة، ولقد أعذر، من أنذر وأقام الدليل على صحة مهمته وصدق دعوته.
وتأكد صدق الأنبياء على مدى التاريخ بآثارهم الطيبة، في غرس شجرة الإيمان في القلوب، وإهلاك الذين كذبوا برسالتهم، وعارضوا وقاوموا دعوتهم.
إنكار قبيلة عاد البعث:
لقد بلغت الأقوام العاتية المكذبة برسالات الرسل منتهى درجات العتو والتمرد، والعناد والمقاومة، فأنكروا صحة النبوة والرسالة، وإنزال الوحي الإلهي على البشر، وآذوا النبي والرسول إيذاء شديدا، وطعنوا في مقدراته العقلية وطاقاته الفكرية، وسخروا منه أشد السخرية، وأشركوا بالله شريكا آخر، وأنكروا وجود البعث والقيامة، أو العودة إلى الحياة الأخروية مرة أخرى بعد الموت وبلى العظام، وصيرورتها ترابا متفتتا. وهذه هي قواعد الكفر ومحطاته الأساسية، قال الله تعالى مبينا شبهة قبيلة عاد في وجود القيامة، بعد إنكارهم بشرية الرسل:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7